25 - 06 - 2024

إيقاع مختلف | عندما يجترئ التلاميذ على الاختلاف

إيقاع مختلف | عندما يجترئ التلاميذ على الاختلاف

(أرشيف المشهد)

27-10-2011 | 00:56

لا بد لى من أن أتردد كثيرًا قبل أن أعلن أننى واحد من تلاميذ الكاتب الصحفى والسياسى العربى الأبرز محمد حسنين هيكل، فأنا فى أحسن الأحوال واحد من التلاميذ الذين تتلمذوا على يد تلاميذ هيكل وليس عليه هو شخصيًا، وهل هناك كاتب أو مفكر سياسى عربى مهم يستطيع أن يزعم أنه نجا من سطوة هيكل الصحفية والسياسية والفكرية أيضًا؟!

أستعيد الآن لحظات لقائى الأول بكتابات محمد حسنين هيكل منذ  عقود ثلاثة، كان ذلك حين بدأت أقرأ صفحات من كتابه العاصفة  (خريف الغضب)، هذا الكتاب الذى سمعت به وقرأت عنه وتابعت الهجوم عليه وعلى صاحبه قبل أن أقرأ كلمة واحدة منه، أتذكر الآن كيف أسرنى الكتاب أسرًا تامًا لا تُجدى معه كل جهود الصلبان الحمراء ولا الأهلة الحمراء ولا أى رمز أحمر آخر، فقد كان الأسر من ذلك النوع الذى يعشقه الأسير قبل أن يحكم الآسر سطوته حوله، كنت وأنا أقرأ الكلمات أتوقف للحظات وأعد وأحسب الصفحات الباقية خشية أن ينتهى هذا الكتاب الآسر، لا لأننى اقتنعت بكل ما جاء به مائة بالمائة، لكن لأننى وجدت نفسى أمام كاتب يعرف ما يقول جيدًا، ويعرف كيف يقوله تمامًا، يعرف كيف يوصل إليك الحق الذى يعتقده حقًا، والحق الذى هو حق فى ذاته، يُجيد قراءة المشهد، واستعادة التاريخ، وتجميع الوثائق، واستشراف المسستقبل،  ليخرج لك بالصورة الكاملة فى بناء فكرى فريد.

وأذكر الآن كيف ظل موقفى من كتاباته يتكرر مرة بعد أخرى إلى أن كانت حلقاته الرائعة التى تحمل عنوان "تجربة حياة"، وكيف تحول حساب الأوراق إلى عدّ الدقائق، فكنت مع كل مقطع من حديثه بالغ الأهمية أنظر إلى الساعة لأحسب الدقائق الباقية خشية أن ينتهى اللقاء.

هل يكفى ما سبق ليبين مدى شغفى بهيكل وكتابته ومدى شعورى بالمتعة العقلية عند قراءته أو سماعه، أم ينبغى أن أضيف فأصف مدى فزعى عندما قرر التوقف عن الكتابة الصحفية، وكيف راهنت ساعتها على أن الصحفى الذى بداخله لا يمكن أن يسمح له بذلك، وأن الحنين إلى القلم أقوى من أن يصمد أمامه رجل فى ذكاء هيكل أو فى عشقه للصحافة والفكر السياسى.

لا أقول هذا لأننى أنوى كتابة قصيدة فى مدح هيكل أو فى الإعجاب بمنطقه ومنطلقاته وأسلوبه الفكرى المتين، بل أقوله بين يدى الاختلاف الذى أجرؤ على أن أمارسه مع هيكل الأستاذ والمعنى والرؤية النافذة.

لا أظن أننى كنت الوحيد الذى فوجئ بما طرحه هيكل فى حواره الأخير الذى أكدّ فيه أن ما تعيشه المنطقة العربية الآن ليس ربيعًا عربيًا وإنما هو سايكس - بيكو جديدة ، لا أدرى لماذا شعرت وأنا أقرأ كلمات أستاذى بل أستاذ أساتذتى أن الثورات العربية عامة والثورة المصرية خاصة حملت من العنفوان والمغايرة والقدرة على تكسير الثوابت ما فاجأ أشد الناس حنكة وأقدرهم على الاستيعاب والتحليل والفهم بمن فى ذلك الأستاذ هيكل شخصيًا، وأننا جميعًا مطالبون بأن نفكر بطريقة مغايرة تمامًا لكل ما تعلمناه وما اعتدنا اعتماده فى طرق التفكير السياسى والاجتماعى، وأننى للمرة الأولى فى حياتى أرى ضرورة التفريق بوضوح بين التعلم من الماضى واستلهام دروسه من ناحية والوقوع فى أسر الماضى من ناحية أخرى.

نعم بصعوبة شديدة أجد فى نفسى من الجرأة ما يجعلنى أعلن خشيتى أن يكون اعتداد الأستاذ هيكل بدروس التاريخ قد دخل به إلى منطقة الوقوع فى أسره بدرجة أو بأخرى.

لستُ بحاجة لأن أذكّر أستاذى بأن هناك فارقًا كبيرًا بين أن يفرض الغرب علينا وضعًا بذاته، كما حدث فى سايكس - بيكو، وأن يسعى  إلى التفاعل الإيجابى  مع ما تشهده المنطقة من تغييرات هى ربيع عربى بامتياز، لم يكن متصورًا أن يبقى الغرب واقفًا يتفرج على الثورات العربية تتوالى دون أن يسعى إلى التفاعل معها أو استثمارها (على نحو ما يبدو بصورة أكبر فى ليبيا مثلاً)، وهنا يكمن الفارق الشديد، الغرب أُجبر على أن يلهث وراء الثورات العربية ليستفيد منها كما يفعل العقلاء فى كل زمان ومكان، وكما تفعل المجتمعات الحيوية على مدى التاريخ، أما فى سايكس - بيكو فقد كان الغرب هو اللاعب الأوحد، يقسم تركة هامدة ساكنة لا رأى لها ولا فعل.

وأعتقد أن هذا الفارق يحمل قدرًا كبيرًا جدًا من الأهمية، لأنه يقول للثائرين فى كل قطر عربى: انتبهوا إلى محاولات الغرب للاستفادة من ثوراتكم، أما ما قاله الأستاذ هيكل فإنه لا يحمل هذا المنطق وإنما هو يحمل منطق "لا جدوى" ، مهما فعلتم فأنتم أدوات فى أيدى الغرب الذى يعيد تقسيم المنطقة كما قسّمها منذ قرن أو يزيد.

منطق الأستاذ هيكل منطق يشيع الإحباط، وقد لمسته فعلاً لدى كثير ممن تحاورت معهم ممن قرأوا  حوار الأستاذ وفوجئوا برؤيته، خاصة أنه لم ينتقل من منطقة التشخيص إلى منطقة وصف العلاج، أى أنه لم يقل لنا إذا كان الأمر على نحو ما يراه هو، فما الذى ينبغى أن نقوم به، هل نئد ثوراتنا لكيلا نُسهم فى تحقيق الغرب خطته الشيطانية فى إعادة تقسيم المنطقة؟ هل نتبنى منطق لا جدوى ولا فائدة؟ أم نؤمن بالمنطق الذى يشيعه النظام السورى الآن بصفة خاصة، والذى يقول إن نجاح الثورات معناه ضياع الأوطان؟

 أسئلة أتوجه بها لأستاذى وأنا أذكّره بموقف ميدان التحرير من كل محاولات التدخل الأمريكى ولو بمنطق مساعدة الثورة والثوار، وكذلك بالبدهية التى لم تغب عنه يومًا، وهى أنه لو كان الغرب مُخيرًا لاحتفظ بطغاتنا الذين كانوا يخدمون أهدافه بإخلاص وهمة لا نظير لهما.

أستاذى هيكل: لا أشك فى أنك أول من يسعد بهذا الاختلاف الذى جرؤ عليه واحد من تلاميذك، على الأقل لأنه اختلاف يحمل الأمل والثقة لكثيرين ممن حمل إليهم حوارك قدرًا كبيرًا من الإحباط والإحساس باللا جدوى.

أمل حقيقى وثقة مبنية على إنجاز ثورى عربى أسطع من أن تحاطه الغيوم.

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة





اعلان